منذ انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، بأصوات من بينها أصوات نواب حزب الله، ومنذ ما قبل ذلك عملياً، منذ اللحظة التي كتب فيها صيغة البيان الوزاري الذي سيلقيه أو وافق عليها، كان جوزاف عون عارفاً بأنه يتسلم الرئاسة الأولى في لبنان "وسط زلزال شرق أوسطي تصدّعت فيه تحالفات وسقطت أنظمة وقد تتغيّر حدود!".
هذا ما قاله حرفياً في خطاب القسم الذي ألقاه بعد انتخابه. ونتيجةً لوعيه بتبعات "الزلزال الشرق أوسطي" الذي صنعته هزيمة حزب الله في لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا، دعا عون إلى "تغيير الأداء السياسي في رؤيتنا لحفظ أمننا وحدودنا"، كجزء من خطوات ضرورية لإيجاد حلّ لـ"أزمة الحكم" التي يعيشها لبنان، وذلك عبر "تأكيد حق الدولة (عبر جيشها) في احتكار حمل السلاح".
وعندما تشكلت حكومة نواف سلام، التي يتمثل فيها حزب الله، نالت ثقة مجلس النواب على أساس بيانها الوزاري الذي أعلن أنها "تعمل على تنفيذ ما ورد في خطاب القسم للسيد رئيس الجمهورية حول واجب الدولة في احتكار حمل السلاح"، وتعهّد بأن "تلتزم" الدولة "بالكامل مسؤولية أمن البلاد والدفاع عن حدودها وثغورها" وتبسط "سيادتها" على "جميع أراضيها، بقواها الذاتية حصراً" و"تملك قرار الحرب والسلم"، و"تعمل على تحييد لبنان عن صراعات المحاور".
يشي هذا التلاقي في الرؤى، بأنّ هنالك مساراً لبنانياً واضحاً ومُجمعاً عليه لبسط سلطة الدولة أخيراً على كامل الأراضي اللبنانية، ولكن الأمور ليست كذلك، فليس هنالك هكذا مسار ولا هنالك رفض نهائي لهذا المسار، بل هنالك تسويف وحالة مراوحة على طريقة تعاطي اللبنانيين مع كل ملفاتهم المصيرية.
هنالك شيء من الوجاهة في مواقف رئيسَي جمهورية لبنان وحكومته المتباينة، وهذا جزء من تعقيد المشهد اللبناني: لا يمكن بناء سلم أهلي واستقرار حقيقي في ظل وجود سلاح حزب الله، كما لا يمكن الحفاظ على السلم الأهلي الهشّ إذا قررت الدولة نزع سلاح حزب الله من دون رضاه.
تغيّر "مناخ الحسم"
حالة المراوحة هذه خلقها حزب الله الذي لا تناسبه التوازنات الإقليمية الحالية وينتظر متغيرات توفّر ظروفاً جديدةً تسمح له ببناء قوته العسكرية مرةً جديدةً، دون أن يعرف ما هي هذه الظروف وما إذا كانت ستوجد أساساً.
وإزاء ذلك، تغيّر قليلاً مناخ "الحسم" الذي عبّر عنه البيان الوزاري وخطاب القسم، وبدأت تظهر تباينات بين تصريحات رئيس الجمهورية، وبين تلك الصادرة عن رئيس الحكومة حول ملف سلاح حزب الله، ولو أنهما يحرصان على التصريح لوسائل الإعلام بأن لا خلافات بينهما.
كل منهما يعبّر عن توقه إلى بسط الدولة سلطتها على كامل أراضيها، ولكن طريقة التعبير عن هذا التوق تشي باختلاف أساسي، فرئيس الحكومة يريد الوصول إلى هذه الغاية بسرعة، اليوم قبل الغد، بينما يبدو رئيس الجمهورية غير مستعجل ويربط تحقيق هذه الغاية بحوار لا سقفَ زمنياً له بينه وبين حزب الله، وذلك حفاظاً على السلم الأهلي.
يمكن ردّ هذا التباين إلى انتماء الرئيسين إلى مدرستين مختلفتين في فهم السلم الأهلي، فسلام يرى أنّ الطبيعي هو احتكار الدولة للعنف "الشرعي"، وأنّ تقاسم القدرة على ممارسة العنف بين "الدولة" وبين مجموعة من الشعب يمثلها حزب الله، في بلد قائم على التوازنات الطائفية، لا يمكن أن ينتج عنه إلا توليد الظروف لاقتتال أهلي.
هذه التوازنات الطائفية التي يعيها سلام، يعيها عون أيضاً، ولكنه يبني نظرته إلى الأمور عليها بشكل مختلف، فهو يرى أن ممارسة الدولة ضغوطاً على حزب الله لتسليم/ نزع سلاحه وتجريده من أدوات العنف التي يمتلكها، هي ما قد يدفع إلى انفجار طائفي، خاصةً أنّ حزب الله يعطي نفسه حق النطق باسم الطائفة الشيعية، أكبر طائفة لبنانية، وكل المؤشرات تقول بأنّ غالبية الشيعة ما زالوا يدعمون بالفعل خياراته أياً كانت.
المشكلة في هذا التباين تكمن في أنّ هنالك وجاهةً ما في كل من طرفَيه، وهذا جزء من تعقيد المشهد اللبناني الحالي: لا يمكن بناء سلم أهلي واستقرار حقيقي في لبنان في ظلّ وجود سلاح حزب الله، ولا يمكن حتى الحفاظ على السلم الأهلي الهشّ القائم حالياً إذا قررت الدولة نزع سلاح حزب الله من دون رضاه.
حسابات ومساحات تحرّك تفرضها أو تتيحها توازنات طائفية داخلية تقف خلف تباين مواقف السياسيين في لبنان، ولكن المشكلة الكبرى أنّ القرار في شأن معظم القضايا المصيرية التي تتحكم بمستقبل هذا البلد الصغير ليست على طاولة رؤسائه، بل على طاولة قوى خارجية.
مواقع مختلفة
جانب آخر يولّد هذا التباين بين الرئاستين الأولى والثالثة، ينبع من طبيعة موقع كل منهما في التركيبة السياسية الحالية للبنان، ما يعطيهما مساحات مختلفةً للمناورة.
فرئيس الجمهورية يستطيع التمادي في لعب دور "الأب" الحاضن لجميع اللبنانيين والذي يسعى إلى تنفيذ رغبات كل "أبنائه"، وذلك لأنه يشغل منصباً مارونياً/ مسيحياً، وتالياً فإنّ أيّ "لين" يُظهره في ملف نزع سلاح حزب الله تُعدِّل مفاعيله صلابة مواقف سمير جعجع، الذي يرأس حزب القوات اللبنانية، أبرز ممثل للبنانيين المسيحيين حالياً، بينما يشغل سلام منصباً سنّياً في ظل عدم وجود أي طرف سياسي سنّي ذي شعبية كبيرة يستطيع تعديل مفاعيل مواقفه، ما يعني أن أي "لين" يبدر عنه سيعني توفير غطاء سنّي لرغبات حزب الله.
وواقع الحال أنّ لبنان الذي يقوم على المناصفة في المناصب بين المسيحيين والمسلمين، يقوم كل شيء في قواعد اللعبة السياسية فيه على أساس المثالثة (شيعة/ سنّة/ مسيحيين)، ما يعني أنّ موافقة طائفتين على أيّ موقف يعطيه غطاءً "لبنانياً".
هي إذاً حسابات ومساحات تحرّك تفرضها أو تتيحها توازنات طائفية لها علاقة بالداخل اللبناني. ولكن المشكلة الكبرى أنّ القرار بشأن معظم القضايا المصيرية التي تتحكم بمستقبل هذا البلد الصغير ليست على طاولة رؤسائه، بل على طاولة قادة دول إقليمية ودولية.
هذه القوى الخارجية هي مَن يقرر كيف ينبغي أن يسير لبنان في المرحلة المقبلة، واللبنانيون أمامهم خياران: إما انتهاج المسار الذي يُقرَّر لهم فتتوفر بعض الظروف المساعدة على إعادة إعمار ما هدمته إسرائيل واستنهاض اقتصادهم المنهار، أو الرفض والتسويف مع ما يحملانه من خطر غضّ العالم نظره عن الـ10،452 كيلومتراً مربعاً التي يشغلونها، ولـ"يقلّعوا شوكهم بيديهم" إنْ كانوا قادرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ ساعة❤️?
Bassel Hany -
منذ 3 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 3 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 3 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 5 أياملم يفهم مذا تقصد
Tayma shreet -
منذ 5 أيامWow !